montazar.net
montazar.net
montazar.net
montazar.net
montazar.net

نقصد بكلمة العالمية في هذا العنوان هنا مجرّد صيرورة الشيء عالمياً دون أيّة مضاعفات أو ملابسات أو اختزانات مفهومية إضافية كالتي تقدّمت، وبالتأكيد فإنّ المنظومة المعرفية الدينية على مستوى الديانات كافة تقريباً تستبطن هذا التصور العالمي لاسيما الديانة الإسلامية التي صرّحت نصوصها بالبعد العالمي فيها، فقد جاء في القرآن الكريم "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" {1}، وجاء أيضاً "إن هو إلا ذكرٌ للعالمين" {2}، "إن أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهدى للعالمين" {3}، "وما تسألهم عليه من أجرٍ إن هو إلا ذكرٌ للعالمين" {4}، "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" {5}، "وما أرسلناك إلا كافّةً للناس بشيراً ونذيراً" {6}. كما أنّ فكرة المهدوية الغارقة في المخيال الديني العام والخاص تؤكّد هذه المقولة، وتدعم التصور القاضي بعالمية الدين، وهو ما يدفع البعض إلى القول بأنّ العولمة ـ إذا ما تعدّينا صيغتها اللغوية ـ لا تمثل موضوعاً جديداً في الحياة البشرية وإنما هي مشروعٌ استهدفته الكثير من الأمم والحضارات والأديان والقوى السابقة والغابرة، والفروقات التي تبدو إنّما هي في ميزات الواقع المعاصر، ومن هنا تكون العولمة خياراً إسلامياً في جوهرها.. غير أن النقطة المركزية في المقارنة بين العولمة الغربية والعالمية الدينية تكمن في البنى القبلية التي انطلقت منها هاتان الظاهرتان، فبحسب العرض المتقدم لظاهرة العولمة الغربية يلاحظ أن المنطلقات التي يراد عولمتها وكذلك الدوافع التي تحرّك هذا المشروع تختلف في جذرها عن العالمية الدينية في الجانبين المذكورين، لأن الجمع بين العولمة ونهاية التاريخ في التصوّر الغربي يعني أن المراد تعميم الليبرالية بالمفهوم الحديث لها، وهذا يعني نوعاً من استبطان المفاهيم الحداثية في داخل المشروع، وهي مفاهيم ـ بغض النظر عن الآراء فيها بين الحداثيين وما بعد الحداثيين ـ تقوم على الفردية والنفعية والمادية وغيرها من المفاهيم التي تستوعب الثقافة الغربية والأمريكية بالخصوص. إذن ما يراد عولمته في المشروع الحاضر هو هذه المنظومة المعرفية والحياتية، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فان العنصر المحرّك لظاهرة العولمة هو العنصر الاقتصادي، وأمّا الجوانب السياسية والثقافية والحضارية واللغوية والاجتماعية و... فإنما هي أمورٌ تتبع المركز الذي يصدر عنه المشروع، وتقف في درجةٍ متأخّرةٍ عنه. إذا أخذنا هذين الأمرين بعين الاعتبار يمكننا أن نقرأ الموائز بين العولمة الغربية والعالمية الدينية سيما الإسلامية، : في المشروع الذي يراد تعميمه من خلال العولمة، فإن العولمة الغربية تريد في وقتها الراهن تعميم الليبرالية الحديثة، والليبرالية تعني قبل كل شيء أو تختزن إلغاء الطابع المعنوي للحياة وإعادة رسمها وفق أسس مصلحية نفعية فردية تفترض الإنسان محور الحياة دون أن يكون جزءاً من كلٍّ أكبر، وهذه الليبرالية لا تحمل سوى العقل الكمّي لأمور ذاك العقل الذي صبغ الفكر الغربي عموماً في الفترة الأخيرة، والشيء الطبيعي الذي يتوقّع أن ينجم عن ذلك هو ازدياد الهوّة بين الناس أجمعين لا فقط بين الحضارات أو بين الطبقات، والسبب في ذلك يكمن في طبيعة التصادمات المصلحية بين البشر وهي تصادمات وان أمكن الحدّ منها من خلال بعض النظم الغربية في مجال السياسة والاجتماع إلا أن العقل الغربي لم يستطع أن يمنعها أو أن يحدّ منها في مجال العلاقات التي تربطه بالأمم والحضارات الأخرى، بل إن الأمر الذي يمكن التركيز عليه هنا ينبع من الفكرة التي أثارها غارودي في "حوار الحضارات"من أن النمو الغربي المذهل والموفقية الغربية على أكثر من صعيد إنما جاءا عقب ممارسة إلغاء وقمع وإذابة وإفناء وقهر للأديان والحضارات والأمم والدول الأخرى مما تشهد به سلسلة الأحداث التاريخية لحياة الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين وما يزال، وهذا يعني أن الحد الذي يحصل في الغرب من التداعيات السلبية لنزعات البراغماتية والفردية وغيرها إنما كان بفضل ممارسة تداعيات أبشع على الصعيد الخارجي، وهو أمرٌ له مداليله؛ فالرفاهية الاقتصادية والحدّ من حالات التخلف العلمي والاجتماعي في الغرب إنّما جاء في كثير من الأحيان عن طريق سلب ثروات الأمم الأخرى لاسيما القارة الأفريقية، وهذا ما من شأنه أن يدلّل على أن الحضارة الغربية تقع تحت مثار السؤال القائل هل أن الغرب كان بإمكانه طبقاً لنظرياته عن الحياة والكون والإنسان أن ينهض بإصلاح مجتمعاته لولا الممارسات التي تجاوز بها نظرياته نفسها في العلاقات مع الدول الأخرى والشعوب الأخرى؟! إنّ ما تقدم يرشدنا إلى أن المنظومة الحياتية التي تحملها العولمة إلى أقطار العالم من شأنها إذا ما سرنا وتداعياتها الطبيعية أن تولّد مزيداً من الانقسام البشري والفوارق الحادّة التي من شأنها أن تصنع توتّراً لا استقراراً وان تولّد عنفاً وتأزماً أينما حلّت. إنّ الآثار المذهلة والمخيفة للعولمة مما أشرنا إليه أو لم نشر ما هي إلا تعبير منطقي عن البنى القبلية التي حملتها وتحملها العولمة معها وتريد من خلالها إصلاح العالم، فإذا ما أريد للعولمة أن تُدرس في إطار العالم الذي ينتفع بها أي عالم الأثرياء وأمثالهم فان لها آثاراً إيجابية في غاية الأهمّية، وإذا أريد لها أن تكون في نطاق مجتمعات محدودة على حساب مجتمعاتٍ أخرى لربما أمكنها أن تحلّ الكثير من المشاكل التي يعيشها إنسان تلك المجتمعات، والتجربة الغربية خلال القرنين الماضيين شاهد على ما نقول، إلا أن المفارقة الهامّة هنا تكمن في الشمولية التي تريد العولمة أن تمارسها أو تعبر عنها، فقد اعتادت التجربة الغربية أن يكون لها ضحايا قبال كل إنجاز أو تقدم علمي أو حياتي أو حضاري تنجزه، فمن يمكن أن يكون اليوم ضحية للعولمة وكيف يمكن أن تنسجم العولمة مع نفسها إذا آمنت بمنطق الضحية لكل تقدّمٍ ما دامت قد أدخلت في حساباتها كلّ البشر؟ النقطة الأساسية فيما نريد الإشارة إليه هنا هي أن العقل الغربي الذي تحمله العولمة هو نفس العقل الغربي الذي حملته الحملات الاستعمارية على العالم الثالث سابقاً ـ وهو ما يصحح التسمية التي ذكرها بعض الباحثين من أن العولمة هي "ما بعد الاستعمار" باعتبار أن ما بعد في مثل هذه التعابير لا تعني القطيعة مع "ما قبل" كما نقول "ما بعد الحداثة" أو "ما بعد الكانتيين" دون التخلي عن الحداثة أو عن فلسفة كانت ـ وقراءة هذا العقل تؤكّد ارتكازه أو احتياجه لمنطق الضحية؛ لان المفاهيم الليبرالية والحداثية التي ينطلق منها إنّما تتطلب وتستدعي مثل ذلك، فعندما أكون محور العالم في المذهب الإنساني، وعندما تكون أباليّتي كامنةً في ذاتي وفي عدم أباليتي بغيري، وعندما تكون الآفاق التي أحملها لا عالم فيها للمعنويات الأخلاقية والروحية... فمن الطبيعي حينئذٍ أن أخرج بداروينية اجتماعية ترى في بقاء الأصلح (الذي يساوق في المفهوم الغربي الأقوى) صلاحاً للبشرية مادمت أنا هو ذاك الأقوى. فعلى سبيل المثال يرى البعض أن العولمة تطرح الديمقراطية وحقوق الإنسان كأهداف نبيلة تسعى لنشرها عالمياً من تدويل سلطاتها ونشر قيمها الخاصة، ولكننا نجد أن أباطرة العولمة يضحّون بالديمقراطية وحقوق الإنسان عندما يتعارض ذلك مع مصالحهم، حيث نلاحظ كيف دقّت العولمة آسفين الانهيار في دول شرق أسيا عندما أرادت أن تفرض سيطرتها المطلقة على هذه البلاد، فهذه الدول التي يعتبرها الغرب مثالاً لنجاح انتقال العولمة إلى المجتمعات غير الغربية ظلّت حكوماتها تسلطية أو شبه تسلطية رغم انصباغها بديمقراطية مزيفة. فقد أثبت الواقع أن الإفراط الليبرالي الذي لازم العولمة يمثل تعدّياً على الديمقراطية نفسها لصالح عمالقة المال خاصة حقوق العمال وأحوالهم المتدهورة. أمّا في العالمية الدينية فان الأمر مختلف؛ إذ تنطلق المنظومة الحياتية التي يطرحها الدين من قاعدة إما إنكار الذات كما تفعله الديانة المسيحية أو من نوعٍ من الموازنة بينها وبين الآخر كما هو الحال في الإسلام، وتنطلق من افتراض هذا العالم هو نهاية كل شيء لتصبح نتائجه حاسمة ونهائية إلى اعتباره ممّراً لكل شيء بشري وبالتالي ليتشكل من ذلك مجال واسع لمنح الآخر ما هو دنيوي في سبيل الأفق الأخروي الآخر مما يعني فتح المجال أمام الآخر ليقوى بدل اعتبار قوته إفناءً لي، أو لتنطلق من اعتبار الألم مصدر القوّة والقيمة كما في سانتاغراها غاندي بدل افتراضه رمزاً للفشل والنهاية وتعبيراً عن اللغوية والعبث. وليس الدين ـ بالمعنى الواسع له ـ بحاجةٍ إلى من يثبت له هذه الميزات، فالشعوب والقبائل التي لم تمر بمرحلة الرأسمالية ولم تعرف النظام الغربي تحكي بوضوح عن تجارب في غاية الأهميّة لو جرى تعميمها لربما غيرت الكثير من أوضاع الإنسانية، فقرى وأرياف أفريقيا والعالم الإسلامي وسفوح همالايا الهند كلها تعابير واضحة عن رسوخ روح التعاون بدل التصارع المادي، وروح التضحية والتقديم للآخر بدل روح الاحتكار والابتزاز المادي والاقتصادي، وهذا الواقع يمثل شهادةً حاكيةً وكافيةً دون الحاجة إلى الرجوع إلى آمال العقل الديني في النهاية الشديدة الروعة التي يصوغها للتاريخ البشري، والتي على أي تقدير تحكي عن الأفق الذي يحمله التصوّر الديني لشبكات العلاقات التي أعاقت تشكيل الكثير منها الأنماطُ الحياتية التي فرضتها طبيعة النظم الغربية. إنّ الدين كجوهر لا يختزن ـ بصورةٍ كاملةٍ أو شبه كاملة على الأقل ـ الأحداث المؤلمة التي تجري المعاناة منها بسبب العولمة في وضعها الراهن، فالتصوّرات التي يحملها الدين عن المفهوم الاقتصادي والمالي ـ بقطع النظر عن فرص التطبيق ـ هي تصوّراتٌ يفترض بحسب بنيتها النظرية أن تخفّف من الانقسام الطبقي البشري ومن ارتفاع معدّلات الفقر و...، إنّ القيم الدينية المالية لا تسمح بتمركز رأس المال "كي لا تكون دُولةً بين الأغنياء منكم" {7}. "...والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذابٍ أليم" {8}. ولا تقبل التجاهل الخلقي للفقير، بل تصرّ ـ وفي مختلف المجالات وحتّى على المستوى العبادي الشخصي (الصوم والحج نموذجاً) ـ على تضييق الهوّة الاجتماعية والمعنوية بين الفقير والغني، وهو أمرٌ يعدّ من أهم أساسيّات الدين بحسب دراسة نصوصه وتاريخه، هذا فضلاً عن أنّ البنية المفاهيمية للضرائب في الإسلام مثلاً يعد الفقير والمسكين ركنان من أركانها، فالمسلم عندما يمارس دفع الضريبة فانه لا يمارسها على الطريقة الغربية وإنّما كتعبيرٍ حيٍّ في نفسه عن عمليات إغاثة الفقراء والمساكين لا مجرّد عمليّةٍ ميكانيكيةٍ اقتصاديةٍ استدعتها طبيعة الظروف والأوضاع، أو مخافة الخسارة الفادحة في نهاية المطاف من خلال التوتّر الذي يؤدّي إليه تدهور أحوال الفقراء والمساكين في طبيعة العقل الغربي الكمّي غالباً، وهذه العناصر النفسية والسلوكية وبالتالي المظاهر الاجتماعية والاقتصادية لا تسمح في حدود نمط تركيبتها بسيطرة مفاهيم ومقولات تفتخر برأس المال وتسحق حقوق الطبقة الفقيرة أو العاملة في لذّة الإقصاء للآخر الضعيف عن نعمة العمل الداعم لأبسط أشكال الحياة. إن الرفض العالمي لظاهرة الدين الموالي للمال والسلطة سواءٌ في التجربة الكنسية أو في تجربة وعّاظ السلاطين المسلمين دليلٌ واضحٌ مرتكزٌ في أعماق التصوّر البشري على أنّ الدين نصير البائس لا الغني، من دون ممارسته نوعاً من احتقار الغنى والرفاهية سيما الدين الإسلامي، وهذا شاهدٌ على شكل العلاقة التي يحملها الدين فيما يتعلّق بموضوع المال. الأمر الآخر الذي يمكن أن تجري ملاحظته في المنظومة الدينية هو عناصر التمايز الاجتماعي في التصور الديني، فإذا كانت الليبرالية بأشكالها القديمة والحديثة لا تتمكّن من الاستغناء عن عمالقة المال لأنّها تصنّفهم تلقائياً كأرقامٍ متقدّمةٍ في المجتمع فان الدين بإعطائه القيمة للعلم والتقوى كمائزٍ تفضيليٍّ في المجتمع يقصي المال عن تحوله إلى عنصر تمايز ذا اعتبارٍ اجتماعيٍّ تفضيليٍّ إلا من حيث التوظيف التقوائي له وان لم يكن يرى فيه شرّاً مطلقاً "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليمٌ خبير" {9}. ، وهذا يعني فرز المجتمع على أساسٍ مغايرٍ للفرز الغربي؛ فليس العالَم فقير وغني أو غني فقط حينما يتجاهل الفقير كلياً بل هو عالِم وجاهل وتقي وغير تقي... وهذا التقسيم الجديد يقلّص من دخالة رجال المال ـ من حيث هم رجال مال ـ في اتخاذ القرار ويضع لمواقفهم ونفوذهم حدوداً تقتضيها الأبعاد العلمية والإيمانية، وهي أبعادٌ من شأنها أن تمنع رأس المال وأصحابه من تدمير الديمقراطية وممارسة إرهابٍ وفرضٍ وقمعٍ من نوعٍ آخر. العولمة ذات المضمون الغربي وما تجرّه على الشعوب الأخرى من ويلاتٍ تنشأ إشكالياتها من هذه الخلفية التي انطلقت منها، وهي خلفيةٌ يعارضها الدين معارضةً شديدةً، وبالتالي فالعالمية الدينية يمكنها إذا ما أحسنت استخدام مفاهيمها أن تتجاوز هذه المخاطر نحو صيغة شمولٍ أكثر سلماً وأقلّ ضرراً، وهو ما ترشد له النصوص الإسلامية المتعلقة بمسألة المهدوية والتي تكشف بشكلٍ أو بآخر عن التصوّر الديني لنهاية التاريخ الإنساني من هذه الزاوية. فمن جملة هذه النصوص التي تحكي عن تنعّمٍ مشتركٍ بين أبناء الإنسان ما جاء في الرواية "...يقسّم المال صحاحاً، فقال له رجلٌ ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس"، وفي روايةٍ أخرى "إذا قام قائم أهل البيت قسّم بالسوية وعدل في الرعية"، وفي روايةٍ ثالثة "يجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم به الأرحام وسفكتم فيه الدماء الحرام وركبتم فيه ما حرّم الله فيعطي شيئاً لم يعطه أحدٌ كان قبله"، وفي خبرٍ رابعٍ "...يطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ من زكاته لا يوجد أحدٌ يقبل منه ذلك، استغنى الناس بما رزقهم الله من فضله"، وهي نصوصٌ صحّت أو لم تصح قُبلت أو لم تُقبل ـ وهو ما لا يعنينا فعلاً ـ تحكي عن هذا التصوّر النافذ في العقل الديني. إنّ المسار الميداني للعولمة والدافع العملي لها إنما هو البعد المالي غالباً لا غير، ومن هنا يصحّ لنا عدم اعتبارها مشروعاً حضارياً أو ثقافياً أو أخلاقياً أو معنوياً أو علمياً... إنها بالدرجة الأولى مشروع مالي اقتصادي يسخر جوانب الحياة الأخرى بالعرض وبالتبع لنفسه دون أن يكون لقيم الفكر والحضارة والثقافة والإيمان أي أهمّية سوى من حيث توظيفها في السياق الإنتاجي العام، فتسويق العولمة لثقافاتٍ معينةٍ ليس بالضرورة قناعةً بنموذجية هذه الثقافات، وإنما إبرازها كنموذجٍ على الصعيد العالمي بأي شكلٍ من الأشكال نظراً لكونها أكثر تناسباً مع المصالح العامّة لرؤوس الأموال. والمفارقة الجوهرية التي تحصل هنا هي في تراجع سلطة الفكر والمعرفة والثقافة والقيمة والأخلاق لصالح سلطة المال، فالمثقّفون والعلماء يوضعون حينئذ في الدرجة الثانية من سلّم صانعي القرار وحتّى رجال السياسة، بل انهم على الأساس نفسه سوف يتحوّلون تدرجياً إلى مجرّد موظفين لخدمة هذا النوع من السلطة كما هو الحال في وعاظ السلاطين في القرون الغابرة، وينجم عن ذلك صنع العولمة بقوتها الاقتصادية طبقات خاصة من المثقفين والعلماء ممن يؤمنون بها ويؤمّنون لها تغطيةً علميةً وثقافيةً دائمةً لينفذوها إلى أعماق المجتمعات، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً سواءٌ قصد المثقّفون ذلك أم لم يقصدوا. أمّا على الصعيد الديني فالقضية مختلفة فعندما يريد الدين تعميم ذاته فإن هدفه الأوّل لا يتمثّل في سلطة المال والربح وإنما في المعرفة والقيمة مهما كان موقفنا من هذه المعرفة أو من تلك القيمة، أمّا المال فيمكن ـ على أبعد تقديرٍ ـ أن يشكّل وسيلةً لهذا الهدف لا هدفاً بنفسه (المؤلّفة قلوبهم نموذجاً)، وهذا معناه نوعاً من حاكمية القيمة والفكرة على المال والربح، وهذا الانقلاب في السلطة أو هذا التداول له مداليله العديدة وآثاره أيضاً. إنّ هذا الانقلاب يجعل الفكر والثقافة والمعرفة والقيمة في الواجهة بحسب سلّم الأولويات، كما يرفع من شأن التضحية والتفاني والأخلاق وأهل هذه الخصال في الوسط الاجتماعي، وفي المقابل يفرض على رؤوس الأموال التراجع خطوةً إلى الوراء في موضوع الصنع الفاعل للقرار دون أن يعني ذلك سلب المشاركة لأنّ هناك فرقاً بين المشاركة والتحكّم. وبعبارةٍ أخرى فالشريحة التي تقود حركة التغيير والإصلاح في المجتمع الديني (ومنه العالمي) إنّما هم العلماء والمتدينون؛ أي أنّهم الذين يقودون المسيرة ويوظّفون رؤوس أموالهم أو أموال الآخرين في خدمة مشروعهم الذي هو بحسب طبيعة شخصيتهم مشروع علمي قيمي، أما العولمة المعاصرة فان السياسة نفسها تصبح دميةً فيها بيد أصحاب الأموال. إن هذه النقطة بالذات تقودنا إلى القول بأن جوهر الدين لمّا كان عبارة عن الاعتقاد القلبي والفعل الباطني لم يكن ليتمكّن هذا الدين من النفوذ إلى السيطرة والحكم إلا عن طريق الرضا القلبي العام "لا إكراه في الدين" {10}، وهذا يعني أنّ الفعل الديني والإيماني هو دائماً فعلٌ إراديٌّ نابعٌ من الذات الإنسانية في قناعاتها وميولها الفكرية والقلبية، ومن هنا فإذا لاحظنا هذا العنصر فإنّنا لن نستطيع الجزم بالمشابهة بين العولمة وبين عالميّة الدين؛ لأن العولمة الغربية تمتد إلى العالم كله عن طريق الاقتصاد وسلطة المال وهذا الطريق لا يرتبط بالفعل القلبي والعقدي للبشر أي انهم يستقبلونه دون أن يمارسوه سيما الفقراء الذين يشكّلون الغالبية العظمى في العالم المتعولم حسب الفرض، أما في الدين فالقضية مختلفة؛ فإن عالميّته لا تتم من دون إدخال دور الفعل البشري العام عن إرادةٍ ورغبةٍ وإلا فان ما سيحصل ليس سوى سيطرة قوة لا دين من دون أن نمارس نوعاً من الفصل غير المستساغ بين هذين الأمرين، فأن يكون الدين عالميّاً هو ـ كما الحب ـ أن يعتنقه الناس ويؤمنوا به وإلا فإذا سيطر على العالم بقوّة السلاح أو المال مثلاً فهذا لا يعني أنه قد أصبح عالمياً بالمفهوم القرآني والفلسفي للكلمة بل مجرّد قوّةٍ مسيطرةٍ على العالم، وهناك فرقٌ شاسعٌ بين الأمرين. إذن إدخال خصوصية الفعل القلبي في الدين يحيل المسألة إلى واقعٍ إرادي لا خارجي، وبالتالي يمنع من أي صيغة شمولٍ دون هذا الفعل الإرادي الذي يعبّر بالتالي عن قناعات الأمم والشعوب وأفراد الناس. والأمر الظريف في هذا المجال هو النصوص الدينية التي تحكي عن العلاقة بين المخلّص والناس؛ فهذه النصوص تشير بوضوحٍ إلى إجماعٍ عامٍّ وإرادةٍ جمعيّةٍ علي هذا المخلّص، وعلى حدّ تعبير البعض "تتميز الحكومة المهدوية بانبثاقها عن إجماعٍ عامٍ ويصحّ التعبير عن قائدها بأنه محبوب القلوب"، ومن جملة هذه النصوص ما جاء في كتاب منتخب الأثر "فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحدٌ ممّن يعبد غير الله إلاّ آمن به وصدّقه..." ، "ويقبل الناس على العبادات والشرع والديانة والصلاة في الجماعات"، "...يرضى بخلافته أهل السماوات وأهـل الأرض...". والمشكلة المؤسفة التي حصلت وتحصل سيما بفعل تأثير المد الغربي هي في إعادة رسم شبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي على أسس يمكن القول بأن النصوص الدينية لا توافق عليها، وقد نفذت هذه المنظومة الجديدة إلى عمق الكيان الإسلامي فحوّلت الواقع إلى محتوى غربي ذي إطارٍ دينيٍّ، وقد كانت عملية إفراغ المضمون المعنوي والعاطفي للأداء والنشاط والفعالية الاجتماعية والإسلامية لصالح بيروقراطيات حاسمة{11} .

{1} الأنبياء: 107
{2} التكوير:27
{3}آل عمران: 96
{4} يوسف: 104
{5} الفرقان: 1
{6} سبأ: 28
{7} الحشر:7
{8} التوبة: 34
{9} الحجرات:13
{10} البقرة: 256
{11} العولمة و العالمية الدین ،حیدر حب الله ص12-24
العالمیّة الدینيّة


العضوية للحصول علی البرید الالکتروني
الاسم:
البرید الالکتروني:
montazar.net

التصویت
ما ترید أن یتم البحث عنه أکثر فی الموقع؟
معارف المهدويةالغرب و المهدوية
وظیفتنا فی عصر الغیبۀالفن و الثقافۀ المهدوية
montazar.net

المواقع التابعة