المصلح المنقذ في الديانة اليهودية:
وهنا, لا بدَّ من مقدمة, لمن لم يطلّع على أسس النصوص اليهودية والمسيحية, وذلك لوجود تشابك واتحاد من جهة, ولوجود اختلاف في الاعتراف بكتب معينة, أو الاختلاف على ترجمة, أو تفسير لنصوص معينة بين الديانتين. _ وبشكل عام _ فإن كل مصادر الديانة اليهودية الأساسية, وهي العهد القديم, تعتبر من مصادر التشريع, والدراسة, والعقيدة لدى الديانة المسيحية, وليس العكس, فلا يعترف اليهود بالعهد الجديد, وهذا لن يلغي حقيقة: إن العهد الجديد يمثل دراسة تاريخية وفكرية لنفس المجتمع اليهودي السائد حين ظهر السيد المسيح عليه السلام. ولا يستطيع أيّ يهودي أن ينكر أن المجتمع اليهودي كان كما ذكر في العهد الجديد, بغض النظر عن التفاصيل الجزئية, أو التفسير المختلف للأحداث. أو القناعة بصحة الدعاوى, بين الطرفين. غير أن هناك كتباً يهودية مستقلة, لم يعترف بها النصارى, إما لأنها متأخرة عن ظهور المسيح أو لأنها كانت من إنتاج الصدوقِيين, الذين أنكروا وتشددوا على المسيح, بعكس الفريسيين الذين تحاوروا معه, ووقعت فيهم بلبلة فكرية, فآمن بعضهم به, وأنكره الآخرون منهم أشد الإنكار, كما في كتب العهد الجديد. وهذه الكتب اليهودية المنفردة, فيها حقائق مخفية ونصوص تعتبر مشكلة حقيقية للديانة اليهودية, ولهذا فهي في طور الكمون السري, لرفع الحرج عن الفكر اليهودي, ولمحو الدليل بالكامل حتّى لا تقام عليهم الحجة بشكل واضح وبيّن, وحتّى لا يبدو الخلل واضحاً أمام أبنائهم, فضلاً عن خصومهم الفكرين, من مسيحيين, ومسلمين, ومنها: مسألة البشارة بالنبي عيسى عليه السلام, والبشارة بالنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, والبشارة بالمصلح الذي يظهر في آخر الزمان عليه السلام. إن مسألة البشارة بمصلح كبير عظيم, كانت هي أساس الشرعية لدعوى السيد المسيح عليه السلام, كما يقول النصارى. وكانت أفعال المسيح عليه السلام مؤيدة لهذه البشارة بالمقدس الآتي من قبل الرب, الذي اسمه: (مسيّا) في زمن السيد المسيح عليه السلام(1). بينما المسلمون يقولون: إن المسيح عليه السلام مؤيد من الله منذ ولادته بالمعجز الخارق, وليس بأفعاله بعد أن كبر. فكان هو بذاته بشارة, ولا يحتاج إلى الاستدلال بالبشارة, فإن من ينطقه الله في طفولته _ بهذا الشكل _ وجريان أفعال غريبة على يديه, له دلالة على الخصوصية التكوينية, والدعوى المنفردة التي تحمل دليلها بنفسها, فلهذا لا يعتقد المسلمون أن أساس التصديق بالنبي عيسى عليه السلام هو البشارات المؤيدة بالنعمة أو الكرامة, كما يقول المسيحيون, ولذلك فهم يرون أن تطبيق المسيحيين, كلمة: (مسيّا) على المسيح عليه السلام فيها الكثير من المجازفة العلمية. بحسب صيغتهم, لعرض رسالة النبي عيسى عليه السلام منذ طفولته, بعكس ما ينص عليه القرآن الكريم, والذي يظهره بأنه مخلوق غير عادي إطلاقاً. ولهذا فإن كلمة: (مسيّا) تبقى في فراغ تطبيقي, حتّى مع ظهور المسيح عليه السلام, وهذا يؤيده اليهود. ولكن ليس من هذا الاتجاه، وإنما لأنهم لا يقبلون بأيّة دعوى تخرج عن سلطانهم ومرجعيتهم, ولا يفكرون بالاندماج بالدعوة الجديدة, فيما إذا كانت تنطبق عليها حقيقة القول بتحقق وجود: (المسيّا). فالمشكلة _ إذن _ مشكلة كيان سياسي وقيادي ينهدم بالاعتراف بظهور النبي الجديد. ولو أردنا أن ندرس الكتب المفردة لليهود, فسيأخذ منّا ذلك الكثير من المساحة, بما هو خارج موضوعنا, ولا بأس أن نشير أن من الكتب المنفردة لليهودية كتاب: (نبؤة هيلد) وتعريبه (وحي الطفل). وهو كتاب يحكي تنبؤات أحد أطفال اليهود قبل ظهور نبوة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, بحدود سبعين سنة تقريباً, وتعتبر هذه القصة ذات مغزى كبير, حيث أنهم يحتفظون بها, ولا يعملون بموجبها, مع تقديسهم لها, وكان في كلام الطفل نصوصاً واضحة بظهور النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, وبانتشار رسالته, ومن ثَمَّ تحوّلها إلى رسالة عالمية بعد ظهور المهدي عليه السلام. وهذا الكتاب يحتاج إلى دراسة متفرّغة, ليس موقعها هذا البحث الذي يريد أن يشير إشارات عابرة إلى حقيقة الانتظار للمصلح العالمي, الذي ينشر الدين الواحد في جميع العالم. وفي سبيل عرض النصوص, سوف نعتمد على النصوص المشتركة, بين الديانتين اليهودية والنصرانية. لبيان حقيقة انتظار الديانتين للمصلح العالمي, مع الإشارة العابرة إلى بعض الخصوصيات. لما ذكرناه من تداخل النصوص بين الديانتين. ومن الجدير بالذكر أن صورة هذه النصوص في الديانتين, مؤيدة ومذكورة في القرآن الكريم, فمنها: ما ذكره الله سبحانه من حقيقة انتصار الصالحين في الأرض, ونسب ذلك للزبور. وهم الورثة الحقيقيون حسب القرآن الكريم, الذي كان يقرأ على مسامع اليهود, يومياً, وهم سكوت لا يعترضون بشيء _ مطلقاً _ وذلك حين قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)). فلم يصدر منهم نفي, حيث نسب الله _ سبحانه _ في القرآن الكريم القول إلى المزامير. فهي إما أن تكون خالية منها, وهذا مأخذ كبير على القرآن في حينه, وإما أن تكون صحيحة, وهم يؤمنون بها, وهذه حكاية عن انتظارهم للمصلح الصالح الذي يرث الأرض جميعها. ومحل الاستدلال ليس هو النصّ القرآني، وإنَّما مجابهتهم بما ورد فيه على نحو الإلزام. ولم ينفوا ذلك؛ لأنه حقيقة كانت موجودة عندهم. وسكوتهم علامة على صحة القضية؛ لأنَّهم يتربّصون الفرصة بالنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم للايقاع به, ولا توجد أكبر من فرصة هذا الادعاء. أقول: كيف ينفون ذلك؟ وهو نص في الزبور, إذ يقول: (الصديقون يرثون الأرض, ويسكنونها إلى الأبد). إذن, فإن انتظار (مسيّا) الموعود لنصرة الحق وتديين العالم بأكمله هو من مسلمات الفكر اليهودي, وقد كانت المجاميع اليهودية في كل مرة تظن أن أحد الرسل هو (المسيّا) فتقع خلافات شديدة بينهم. كما وقع الخلاف في كون يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريا عليه السلام) هو (المسيّا) أم لا؟ وهو مبدأ انشقاق مجاميع كثيرة من اليهود, مثل المجموعة الدينية المعروفة بـ (الصابئة) في وادي الرافدين. ووقع الخلاف على المسيح, هل هو (المسيّا) أم لا؟ وهناك خلافات أخر, تتعلق بشخصيات أخرى. وقد كان اليهود في الجزيرة العربية ينتظرون النبي الموعود (المسيّا)، وحين ظهر النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم رفضوا أن يكون هو (المسيّا) قائلين: يجب أن يكون (المسيّا) من بني إسرائيل وقيل: إن بعضه سمّى ابنه محمّداً لتتحقق النبوءة, مع أنه لم يرد في التوراة مثل هذا الشرط! وهذا يدل على أن أصل الحكم عندهم, ثابت, ولكن الاختلاف في التطبيق, والمصاديق. فهل (المسيّا) هو يحيى بن زكريا عليه السلام؟
أم هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟
أم هو النبي الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟
أم هو الإمام المهدي عليه السلام؟
هذه الأسئلة شكلت _ بالتالي _ مواضيع تطبيقية محيّرة بالنسبة للديانة اليهودية. فمن اليهود من اعتبر الأمر منتهياً وآمن بيحيى صابئاً, ومنهم من آمن بعيسى بن مريم متنصراً؟ أو من آمن بالنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, مسلماً, بناءً على هذه التطبيقات!
لقد كانت المجاميع اليهودية في حالة انتظار دائم, ولا زالت لحد الآن. فحالة انتظار اليهود للمصلح كانت في أشدها حين ولد يحيى, وكذلك حين ولد عيسى, وكتب التاريخ تحدّثنا _ بما لا مجال فيه للشكّ _ أن اليهود كانوا ينتظرون ظهور (المسيّا _ النبي الموعود) في مكّة أو المدينة قبل ولادة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل ظهور دعوته, وكانوا يرجون أن يكون (المسيّا) منهم. وقد سمّى بعضهم ابنه محمّداً, عسى أن يكون هو. فمن هذه الجهة, لا نحتاج إلى استدلال بالنصوص على انتظارهم للمصلح, ولكن جرت عادة بعض المؤمنين أن يورد نصوصاً تفيد هذه الحقيقة, ولا أدري لماذا نحتاج إلى مثل هذه النصوص؟ ما دامت المعارك التي أثارها اليهود, على ثلاثة أنبياء, تدلُّ على نفيهم لكون ذلك النبي هو (المسيّا)، وهذا يكفي _ تماماً _ للدلالة على حقيقة تسليمهم بانتظار المصلح: (المسيّا). وإن فكرة المصلح العالمي من المسلمات التي لا شكّ فيها عندهم{1}.
{1} الحداثوية والقضية المهدوية ،الشيخ نزيه محي الدين، ص154