هفوات العولمة
ان مقومات تحقيق المجتمع الإنساني الواحد يعتمد بشكل كبير على العنصر الإنساني المعنوي وليس العنصر المادي او الادواتي، لان المشاركة الإنسانية المتكاملة تنشأ من عملية التناغم الثقافي والتفاهم الفكري وليس من عملية التبادل التجاري او التواصل المعلوماتي فقط، ولهذا فإننا نرى ان الإنترنت التي هي أداة تواصل معلوماتي مادي من أدوات العولمة لم تحقق ذلك التواصل الثقافي والفكري الهادف بقدر ما كانت أداة لنشر الجريمة والفساد والإباحية وتبادل المعلومات التافه. لذلك يمكن أن نرى هفوات عميقة قد أفرزتها العولمة تعمق الشرخ العالمي وتقودها الى مزيد من الانشقاق والعزلة.وهذه هي تعبير واضح عن عناصر تفكك المجتمع البشري وافتقاده لمقومات التوحد والانسجام.
أولا: الاحتكار ..الاستبداد..!
ان العولمة في ظاهرها تحمل شعارات الحرية والديمقراطية والأسواق الحرة وحقوق الإنسان ولكنها في حقيقتها وأثارها ليست غير طريق لاحتكار التجارة العالمية ووسائل الإعلام وأدوات الإنتاج المعلوماتي، فالدعوة الى العولمة دعوة مبطنة بإلغاء الدول والثقافات والاقتصاديات من اجل السيطرة المطلقة لأباطرة العولمة والشركات الكبرى التي أصبحت تشكل خطرا كبيرا على الدولة الديمقراطية، اذ من خلال التركيز المتزايد للشركات تنشأ مقدرة هائلة لسلطة خارجة عن البرلمان والحكومة، فالشركات الكبرى تملك مواقع قوية لوضع أهدافها في وجه السياسة والشركات الصغيرة، ودائما على نحو واسع تستغل هذه الشركات دعم بحوثها من أموال الدولة، وهي لاتتقاسم الربح الذي تحصل عليه مع المجتمع. بل ان شركات العولمة أصبحت لها نفوذا كبيرا في إسقاط الحكومات وافتعال الانقلابات وتحريك الأزمات وضرب الاقتصاديات المستقلة. وهي تتجه تدريجيا الى تحويل المجتمع البشري الى مجتمع مستعبد مدجن بواسطة وسائل الإعلام والدعاية الإعلانية الاستهلاكية. فالعولمة تعمل على الاستعباد فتحول دون حصول الأفراد والشعوب الخاسرة على الدنيا من الوفرة.
المعلوماتية أدوات تسلطية للفساد
يبشر دعاة العولمة الى بداية المجتمع العالمي بلا حدود وذلك لان المعلوماتية وصلت الى قدرة كبيرة على التوسع والانتشار والسرعة بحيث تكون قادرة على إيجاد التواصل والحوار بين الشعوب ومن ثم وجود المجتمع العالمي الواحد. ولكن تبرز الإشكالية الأساسية في هذا المجال وهو السيطرة المطلقة للولايات المتحدة على الوسائل المعلوماتية فهي أذن لاتمثل الا السياسة والمصالح والقيم الأمريكية وهذا هو الذي أزعج حلفاء الولايات المتحدة في أوربا ودعاهم للتشكيك في العولمة. يرى بريزيجبنسكي ان: لدى أمريكا مشروعا كونيا يؤدي الى تمكنها من تصدير التقنية، ومنظمة ضمن عناصر متمايزة ذات سلطة بنيوية يرافقها اقتصاد استهلاكي وثقافة جماهيرية ذات نزعات حزبية مصممة. ذلك ان أساس القدرة الأمريكية يعود في الغالبية العظمى من الحالات الى سيطرتها على السوق العالمية للاتصالات، ان ثمانين بالمائة من الكلمات والصور التي تنتشر في العالم تأتي من الولايات المتحدة.وهذه السيطرة المطلقة على تيار المعلومات يعطي المبادرة لأمريكا في التصدي لقيادة العالم وهو امر في صميم العقلنة السليمة بين القوى المجددة لرجال الأعمال والإدارة السياسية للدولة، ان السيطرة على تقانة المعلومات والاتصال يضفيان على الولايات المتحدة مكانة محورية في النظام الدولي ويشكلان حجر الأساس في سلطتها. ان المعلوماتية الجديدة يمكن ان تشكل جسرا ماديا واسعا للاتصال بين الشعوب ونشر القيم الاستهلاكية والإباحية لكنها سوف تكون عاجزة عن رفع الحواجز النفسية وتعميق الاتصال الثقافي، بل ان هذه المعلوماتية سوف توجد الدافع القوي عند الشعوب لتحصين ذاتي محسوس في مواجهة هذا الغزو الجديد.ان التصاعد العددي لبعض الجماعات الانتمائية (ذات البعد الأيديولوجي المحسوس) واستخدامها للوسائل التقنية من اجل الارتقاء بصورتها الخاصة والتعريف بمدى تعبئتها يثيران تساؤلات جديدة في إطار التفكير الدولي. فإيجاد قنوات الحوار الجدي يتم عبر رفع الشكوك التي لازالت تتراكم يوما بعد يوم في أهداف الغرب الساعي وراء مصالحه الخاصة وليس لبناء الحضارة الإنسانية.ورفض الكونغرس الأمريكي الأخير لحظر التجارب النووية شاهد على تضحية الولايات المتحدة بمقدرات العالم الأمنية والحضارية لاجل مصالحها الخاصة ومنفعة مصانع وتجارة الأسلحة.
العولمة تحطيم العدالة الاجتماعية..
ان أساس قيام المجتمع العالمي الموحد يعتمد بشكل أساسي على رفع الحواجز النفسية والاجتماعية التي أوجدت شروخا كبير في الجسد البشري، فالفوارق الطبقية والعنصرية والقومية كانت الأساس لتشرذم العالم وانتشار الحروب وضياع العدل وسيطرة الظلم. ولكن ما يحدث في عصر العولمة هو تحطيم لقيم العدالة الاجتماعية في اشد مراحلها على طول التاريخ، فلم يعرف التاريخ ارتفاعا في نسبة الفقر في العالم مثلما عرفه في عقد التسعينات. فالعالم الذي يضم حاليا اكبر عدد من الفقراء هو اكثر فقرا من اي وقت أخر ونسبة الفقر من أجمالي سكان الأرض هي الأعلى في تاريخ الأرض، والفقر اصبح فقرا مطلقا ومركبا يتضمن الحرمان من كل مقومات الحياة وهناك قرابة (4،5) مليار إنسان يعيشون في تلك الدول التي تدعى النامية، 80% من الإنسانية هم فقراء، (1،3) مليار إنسان يتوجب عليهم العيش بأقل من دولار واحد في اليوم، اكثر من 800 مليون إنسان لا يجدون طعاما كافيا، بينما 800 مليون أخرى يتوجب عليهم التخلي عن الرعاية الصحية، وعلى الأقل هناك 840 مليون بالغ لا يستطيعون القراءة والكتابة. وهناك اليوم في عالم نخب العولمة 358 ملياردير عالمي أغنياء بطريقة العولمة حيث تماثل ثرواتهم مجموع ما يملكه (2،8) مليار إنسان اي قرابة نصف سكان الأرض. ان جوهر العولمة يعتمد بالأساس على ازدياد ثروات النخب وتراكمها على حساب إفقار سكان الأرض وثرواتها. فمن يضمن حينئذ ان تعيش الأرض في أمان في ظل هذا التفاوت الطبقي الرهيب، فالشركات الكبيرة تسحق القيم الإنسانية من اجل ان ترتفع أسهمها في البورصات العالمية بعد ان تقتصد في الكلفة بحيث تصل الى اقل مستوى.فهنا العولمة هي تبرير واضح للتقليص الاجتماعي للخدمات والأجور المخفضة التي تدفع الناس الى حافة الفقر والتي ترغم السياسة على اتخاذ إجراءات سياسية تناسب الشركات. ان الاتجاه لعولمة الاقتصاد يتسبب بانحدار اجتماعي لاإنساني فالخدمات يتم تقليصها بغية الحصول على مزايا التكلفة في الفترة قصيرة الأجل. لذلك يزداد ضغط النخب والشركات الكبرى على الدول من اجل خصخصة القطاع العام وتعديل أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية عبر إلغاء الضمان الاجتماعي والصحي والقيود الكمركية وإلغاء القوانين التي تحمي العمال من استغلال أصحاب العمل من اجل فتح أبواب الاستثمار أمامها بأقل تكلفة واكثر ربحا.
فقدان الأمن..
ان اختلال ميزان العدالة الاجتماعية في ظل أحلام العولــمة قد حـــول العالم الى بؤرة من الجريمة واللاامن، لان افتقاد الإنسان للشعور بوجوده العادل وحقه الإنساني سوف يغرقه في مستنقع اليأس وبالتالي يقوده لاستخدام العنف والجريمة من اجل استرداد كرامته المفقودة. فعندما يستمر الأيمان بأيديولوجية المنافسة الكونية بين السلع والرأسمال وتستمر الوعود بان السوق هي الدواء الشافي، وعلى مذابح أيديولوجية التجارة الحرة والليبرالية الجديدة تتم التضحية بحق الوجود الإنساني الكريم، بالأمان الاجتماعي، وببيئة سليمة نظيفة. لقد انفتحت آفاق جديدة للجريمة في ظل العولمة لأنها تشترك في القيم التي تعتمد عليها معنويا بالاستغلال والنفعية فوق اي اعتبار إنساني او أخلاقي، وماديا في استخدامها المفتوح لأدوات المعلوماتية، بل قد تتلاقى عمليا في مشاركة ربحية متفقة. لقد ساهمت العولمة في نشر الجريمة العالمية على عدة أصعــــدة، واهم عامل انحسار الحدود القومية التي كثفت التجارة غير القانونية مع سهولة تحويل رأس المال، والتقدم التقني قد أدى الى تسهيل تبادل المعلومات الإجرامية في خلال ثوان قليلة. وقد ازدادت أرباح تجارة مخدر الهيروئين خمسين مرة خلال العقدين الأخيرين، وساعد تفكك الاتحاد السوفيتي الى انتشار الأسلحة وسرعة الحصول عليها. وهذه الولايات المتحدة التي تفتخر بديمقراطيتها تفوق العالم في مجال الجريمة حيث ان نسبة 2% من الشعب الأمريكي أما قابعون تحت السجون او تحت إجراءات حسن السلوك. ومقاطعة كاليفورنيا التي تفاخر بقوتها الاقتصادية السابعة في العالم قدر أنفاقها على السجون بقدر ما تخصصه لميزانية التعليم. ويبلغ ما تنفقه الحكومة الأمريكية على السجين سنويا مقدار كلفة الدراسة في جامعة هارفارد المعروفة. ان من السخرية ان أغنياء العولمة يعيشون في سجون من صنعهم أيضا حيث ان ما يراوح من 28 مليون أمريكي يعيشون في مساكن محروسة بكل وسائل التقنية الحديثة من أسلحة وكاميرات وغيرها والسبب في ذلك عدم الاطمئنان جراء الجريمة المستفحلة. وفي اوربا فقد ارتفع عدد السجناء في ألمانيا بين أعوام 1992 و1996 بنسبة 25% وفي بريطانيا بنسبة 75%. ان أحد الأسباب الرئيسة لانتشار الجريمة هو افتقاد العدالة وتفاقم البطالة وانتشار الفقر واندثار الطبقة الوسطى التي تشكل البنية الأساسية لتحقيق التوازن الاجتماعي، فالعولمة لم تفشل في تحقيق النمو والحد من البطالة فحسب بل ونسفت المكاسب الاجتماعية القديمة ورمت بفئات اجتماعية متعددة كانت تحظى بمستوى اجتماعي مستقر الى هوة البطالة والفقر، وان اكثر النتائج السلبية خطرا هو القضاء على الطبقة الوسطى ودحرجتها نحو حافة الفاقة وهي الطبقة النشطة والنواة الصلبة للمجتمعات والكابحة لتيارات الغلو والتطرف والسند القوي لدولة القانون والمؤسسات
الفوضى والتفكك والانقسام
تهدف العولمة في شعاراتها الى تشكيل العالم ضمن نظام عالمي موحد ينسجم في وحدة متلاحمة. لكن من خلال ما أفرزته فأنها لم تخلق الا الفوضى والتفكك في عالم اصبح اكثر تنافرا وصراعا وعزلة، لقد ذهب البعض الى وصف الوضع السائد باللانظام او الفوضى العالمية.ذلك إنها لا تريد ان تحقق من خلال التوحيد العالمي الا مصالح آنية ترفع الارباح في سوق الأسهم وليس لها أهداف بعيدة المدى تخدم الجنس البشري.ان الرأسمالية اذا ما اديرت بافتراض ان نظرية القطاع الخاص هي المبدأ بزعم ان حرية المطلقة دائما ستفضي الى رفاهية الكل فإنها ستؤدي حتما الى حروب أهلية، والعديد من المجتمعات يعيش اليوم نوعا من الفوضى الاقتصادية حيث ينتج العمال ما لا يستهلكون ويستهلكون ما لا ينتجون. لقد تحولت العولمة الى صراع محموم بـــين النخبة لـــلمنافسة والوصول الى اكبر رقم تتكاثر فيه الأصفار هذا الصراع هو نقطة انشقاق وشرخ ونقض لمصداقية هذه النظرية.ان معيار العولمة ومحورها هو المصالح وليس التقارب الأيديولوجي ويتجلى ذلك داخل الإطار الرأسمالي نفسه مثلا بين الولايات المتحدة وفرنسا صراع بدور كل منهما في العولمة اذ تسعى فرنسا لاحياء ونشر اللغة الفرنسية لئلا تؤدي العولمة الى طمسها وأفراد اللغة الإنجليزية بقيادة الإعلام والثقافة في العالم.ان الخلافات داخل المنظمات الدولية والتجارية هي في جوهرها صدامات مصالح اتخذت طابع الحروب التجارية وان اتحدت المباديء. ويوم بعد يوم يزداد الظن قوة على تزايد الانعزال والتقوقع الذي اتخذته الجماعات الدينية والأيديولوجية والقومية والعنصرية للدفاع عن نفسها في مواجهة غزو العولمة، ولاشك ان ازدياد حركات العنف والتطرف والحروب الأهلية والدعوات الى استقلال الاقليات في كانتونات ودول صغيرة هي مؤشر على مزيد من الانقسام والفوضى والتفكك في عالم أصبحت فيه العولمة هي المسؤول الكبير عن انتهاك ابسط الحقوق الإنسانية وقواعد القانون الطبيعي. فكيف يمكن ان نرى العالم من خلال قيادة النخبة المبشرة بعالمها الوردي الخاص..؟!{1}.
{1} دولة الامام المهدي و بدائل العولمة، مرتضی معاش، ص6-154