montazar.net
montazar.net
montazar.net
montazar.net
montazar.net

أميرة في سوق النخّاسين
خرج بشر بن سليمان النخّاس أحد أحفاد أبي أيّوب الأنصاري، صاحب رسول الله، من مدينة سُرَّ من رأى، متوجّهاً إلى بغداد راكباً على راحلته، ومعه راحلة أخرى تحمل متاعه.. وسُرَّ من رأى مدينة بناها المعتصم بن هارون العبّاسي ثامن خلفاء الدولة العبّاسية، لتكون معسكراً لجنده الأتراك الذين جلبهم بالآلاف من الآفاق، ليكونوا له ردءاً وعوناً، تعصّباً منه لخؤولتهم له. وهؤلاء الجند أغلبهم من الرعاع والأجلاف لم يعرفوا حضارة أو مدنية، ولهذا عاثوا في الأرض فساداً وأساؤوا كثيراً لأهل بغداد لما عندهم من عنجهية وهمجية وجنوح للعنف، وعدم احترام للصغير والكبير، والمرأة والشيخ، فضجَّ أهل بغداد منهم وضاقوا بهم ذرعاً، وشكوهم إلى الخليفة عدّة مرَّات.. فوجد أنَّ نقلهم من بغداد أجدى وأنفع لما لمسه من بوادر الثورة، وقديماً انتفض البغداديون على أخيه المأمون. فأرسل مهندسيه وبنّائيه ليختاروا له موقعاً مناسباً وأرضاً جديدة تبعد كثيراً من بغداد.. فوقع اختيارهم على هذا الموقع، فاستقرَّ فيه وجنده ويسمّى حينئذٍ بالعسكر وأصبح محلّة كبيرة. ثمّ نقل ديوان الخلافة من بغداد إليه، وعلى إثر ذلك ازدهرت المدينة، وبنيت فيها الأحياء والمساكن، وانتقل إليها العلماء والأدباء والشعراء والتجّار وعلية الناس. وفي تلك الفترة نقل الإمام الهادي علي بن محمّد من مدينة جدّه (المدينة المنوَّرة) إلى سُرَّ من رأى بأمر المتوكّل بن المعتصم ليكون على مرأى منه، فسكن في حيّ العسكر فلقّب به هو وولده الحسن. وسُرَّ من رأى مدينة رابضة على نهر دجلة الخالد، وهي ذات مناخ صحراوي لوقوعها على حافّة صحراء ما بين النهرين، وهي محاطة من بعض جوانبها بالمزارع والمراعي الخضراء.
كان بشر فرحاً لتكليفه بهذه المهمّة وخصوصاً أنَّها من قبل الإمام الهادي الذي اختاره من بين الكثير من أصحابه المقرَّبين. إنَّها مهمّة خطيرة وسرّية في نفس الوقت، لا يضطلع بها كلّ من هبَّ ودبَّ، وإنَّما شخص منتخب من إمام معصوم.. وقد وقع الاختيار عليه. والإمام الذي أرسل بطلبه وكلَّفه بها ليس كباقي الناس هؤلاء، صحيح أنَّه من لحم ودم، يمرض ويموت، ويفرح ويحزن، ويحمل في الأرحام.. إلاَّ أنَّه خليفة رسول الله، ورسول الله خير خلق الله من آدم إلى قيام الساعة.. والذي يقوم مقامه لا بدَّ أن يكون من سنخه باستثناء النبوّة. وإمام عصره كان علي بن محمّد الذي كان معجزة عصره كأبيه التقي الجواد، كلاهما قد تقلَّد مقاليد الإمامة والخلافة في عمر مبكر، فبزا العلماء والفقهاء بالعلوم الإلهية وغيرها. إنَّه شخصية لا كالشخصيات.. وعظيم لا كالعظماء.. وكريم لا كالكرماء.. هو من الدوحة الهاشمية المحمّدية العلوية، جمع ولادة بني هاشم شموس الورى، وأندى الكفوف إذا أجدبت الأرض وضرب الفقر بجرانه على الأرض.. فالعظمة حينما تصل إليه تتصاغر حتَّى تصبح ضعة..والكرم أمام بحر جوده يصير شاطئاً جدباً. فهو من، وابن من؟ ويكفيه عزّاً وفخاراً أنَّه من سلالة سيّد الكائنات محمّد، وصل إليه كابراً عن كابر، عن آبائه أبناء البتول فاطمة الحوراء الإنسية، ومن له جدّ كرسول الله وأب كعلي بن أبي طالب واُمّ كفاطمة لا يشار إليه بالبنان، لأنَّ الرؤوس والأنظار ترجع خاسئة ذليلة لا يمكنها النظر إلى ذلك العلو السامي، ولذلك أصبح هؤلاء محطّ أنظار الحاسدين والحاقدين، فما في قريش من مكرمة أو عظمة إلاَّ ودون عظمتهم بكثير حتَّى لا يمكن المقارنة أو المماثلة.
ولذلك تجد في كلّ عصر طاغوتاً مقابل إمام معصوم يناصبه العداء، منذ السقيفة المشؤومة، فليس بدعاً أن يستقدم طاغوت سُرَّ من رأى متوكّل بني العبّاس الإمام الهادي من مدينة جدّه إلى عاصمته، لأنَّه لا يطيق التفاف الناس حول الإمام بالرغم من أنَّ الإمام لم يدع إلى عمل مسلَّح ضدّ السلطة القائمة، لكنَّه يتوجَّس من منزلته، ومكانته بين الناس بالرغم ممَّا بذله هو وآباؤه من أموالٍ في سبيل الصدّ عن أهل البيت وإبعاد الناس عن أنوارهم القدسية. والمتوكّل هذا نسيج فريد من بني العبّاس، يجمع الدناءة والحقارة واللؤم والسفالة، والحقد والنصب لأهل البيت بحيث فاق من سبقوه من خلفاء بني أميّة وبني العبّاس في ذلك. فهو طاغوت أسود وفرعون قرشي..
تاريخ الطغمة القرشية حزب إبليس، وحزب إبليس هو الذي جلب هذا المتحدّر من أصلاب الخمّارين وبطون القيان إلى منصَّة الخلافة. جلب جلاوزة هذا الخمّار إمام العصر (الهادي بن محمّد) في منتصف الليل لابساً سروالاً وقميصاً، معتمراً طاقية، وأدخلوه على ذلك الآثم الذي كان في حفلة عامرة بالقيان والراقصات والسكارى من البوّاب إلى القائد أو الوزير، وهو في ذروة النشوة، كيف وهو يحكم على إمبراطورية شاسعة ودولة عظمى، وأوقفوه أمامه، كان السكر يلعب برأسه، فأراد أن يشرك الإمام في إثمه وحسب أنَّ كأس خمره شرف وما بعده شرف، وهو تكريم لمن يقدّمه له، فقدَّمه له، فلم تفلح مؤامرته الدنيئة أمام رفض الإمام القاطع الذي مدَّ رقبته للسيف والنطع.
أراد أن يدخله في إثم آخر، لهو الحديث، أراده للغناء، ليضمّه إلى جوقته المتردّية، فصفع مرَّةً أخرى بالرفض القاطع أيضاً. عندئذٍ طلب منه أن ينشده الشعر، فليس في الشعر غضاضة، ولاسيّما في مثل هكذا مجلس عامر بالراقصات الجميلات والسكارى. أخبره أنَّه لا يقبل عذراً هذه المرَّة، وحسب أنَّ الإمام ينشده عن العيون الناعسة والخدود الناعمة وعن الهوى المحموم بين الرصافة والجسر، وعن بنت الكروم إن كانت من عهد عادٍ أو ثمود.
استجاب ذلك السيّد الثائر فصبَّ قطرات من السُمّ الزعاف في كأس الخليفة المخمور، وسكب جرعات من الحنظل في عسله، وألقى في وجهه قنبلة فرَّقت أحلامه وأطارت السكرة من رأسه وحوَّلت ليلته الحمراء إلى ليلة سوداء. فوقع ذلك الأثيم على وجهه، وانقلب في بكاء مرير، وحزن عميق، ذهبت كؤوس السلاف هباءً وضاعت في رنّات البكاء نغمات الأوتار وغناء القيان. ولكن أترى أنَّ ذلك الطاغوت يرعوي عن غيّه؟

عاد ليلة وليلة أخرى لمعاقرة بنت الحان، وإحياء الليالي الحمراء حتَّى دخل عليه ابنه لصلبه مع الأتراك فحوَّلوا ليلته الحمراء إلى جحيم أحمر، فقطَّعوه وهامانه الفتح بن خاقان إرباً إرباً، وخلطوا دماءهما بكؤوس الخمر المراقة، ورفعوا لحومهما بحيث لا تعرف رجل أو يد الخليفة من رجل أو يد خادمه أو وزيره.
هكذا كانت الأفكار والخواطر تتوارد على ذهن بشر بن سليمان، وهو متوجّه في مهمّته تلك، لم ينسَ تلك الكلمات الذهبية من سيّده الإمام، التي توجَّه بها فإنَّها ما تزال تقرع أذنيه: (يا بشر إنَّك من ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف فأنتم ثقاتنا أهل البيت).
ثقة أهل البيت المعصومين، كلمة ثقيلة جدَّاً. يا لها كلمة ما أعظمها، فلو أنَّها وزنت بكلّ ما في الدنيا من كنوز وجواهر وأموال وشرف وجاه لوزنتها. لذا انطلق بهمّة وحماس لأدائها، مسترشداً بتوجيهات الإمام في مسيرته المباركة إلى بغداد. لقد خطَّ الإمام مساره الذي ينبغي أن يسلكه، مسار الرحلة المباركة ذي البعدين..
بعد مكاني أوّله من سُرَّ من رأى وآخره سوق النخّاسين في بغداد. بعد زماني بدايته من وقت خروجه من بيت الإمام حتَّى وصوله ضحى يوم الجمعة، حيث يجتمع الناس لشراء الإمام والرقيق المجلوبين من الآفاق. كان يحمل معه ثمن جارية مئتي دينار وعشريناً في صرَّة صفراء. وكان يحمل أيضاً رسالة غريبة عجيبة لا تخطر على بال بشر. رسالة بخطّ رومي بلغة رومية، من رجل عاش عمره في الحجاز البلد الصحراوي القاحل منذ مولده وحتَّى انتقاله إلى سُرَّ من رأى. والأعجب من ذلك أنَّها موجَّهة لفتاة مجهولة، محبوسة في أقفاص الأسر، والله يعلم الوسيلة التي استلبت فيها، وكم من أولئك الذين ساقهم الحظّ العاثر للوقوع في هذه الأقفاص والعجائب من هذا الإنسان القابع تحت الإقامة الجبرية لا تنتهي، ممَّا تجعل بشراً يقف أمامها مذهولاً: (واحضر معبر الفرات في ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشراذم من فتيان العراق). ثمّ تتكشَّف الصورة أمامه أكثر وأكثر وتذهب إلى ذكر الأسماء:
(فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس). وفعلاً وصل بشر بن سليمان النخّاس إلى وجهته، وعبر معبر الفرات ووصل سوق النخّاسين الذي يقع على ساحل نهر دجلة، ضحى يوم الجمعة، حيث يكون الحشد كبيراً وعرض السبايا أكثر.
جاءت زوارق السبايا والعبيد، تمخر عباب نهر دجلة، وهي تضمُّ الكثير من الجواري والرقيق، وبدأ هؤلاء بالنزول إلى البرّ، وأخذ كلّ نخّاس طائفته من العبيد. كانت هناك قباب وأخبية مضروبة على ساحل النهر، يتمُّ إدخال السبايا فيها بعد إنزالهم من الزوارق من شتّى الألوان واللغات، مختلطة ما بين نشيج السبايا وضحكات وأصوات المتفرّجين، فكم من لوعة ودمعة سكبت في ذلك المكان من أولئك المساكين الذي يدفعون ثمناً غالياً لحروب ما لهم فيها ناقة ولا جمل سوى أنَّها أطماع بين الدول المتحاربة. هؤلاء جميعاً وقعوا في أسر جيوش المسلمين في حروب دامية وغزوات لا عدد لها، سفكت فيها دماءٌ غزيرة لأجل جلب ما أمكن من أبناء الشعوب المقهورة إلى قصور الخلفاء القابعين في دمشق وبغداد.. استلب هؤلاء من أحضان عوائلهم واُمّهاتهم، من أطفال صغار لم يبلغوا سنّ الرشد، إلى فتيان وفتيات في شرخ الصبا وميعة الشباب. إنَّه الاستعباد البشري القائم على قدم وساق الذي يقع على الجميع من مسلمين وغيرهم. لم يذهب بشر إلى أيّ نخّاس من أولئك فإنَّ صاحبه محدَّد المعالم، محدَّد الصفة والاسم، والجارية موجودة وثمنها محدَّد سلفاً، لا يمكن أن ينخرم من ذلك شيء، إنَّه عمر بن يزيد النخّاس. عند ارتفاع الشمس، أخرج عمر بن يزيد النخّاس تلك الجارية من الخباء وأوقفها على الدكّة أمام الجميع، وهي في أشدّ الضيق والألم، وكانت تضع برقعاً على وجهها لا يبرز منه إلاَّ عيونها الذابلة من السهر والبكاء وكانت تلبس ثوبين من الحرير يستران بدنها ستراً كاملاً ولكنَّها لم تنسَ أنَّها أميرة فوقفت بعزّة وشموخ ولم تسمح لأيّ شخص بالتقرّب منها أو لمسها أو كشف قناعها ولا الانقياد لمن يحاول لمسها كما يفعل بالجواري والإماء الأخريات، وكانت تدفع بعنف كلّ يد تحاول كشف سترها، ممَّا أغضب عمر بن يزيد النخّاس فقام وضربها بالسوط فعلا صوتها بالبكاء وهي تقول بلغتها الرومية: وا هتك ستراه. تقدَّم أحد الفتيان من النخّاس وقد أعجبه تمنّعها وعفافها فقال له: قد أعجبتني هذه الجارية كثيراً فعليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني عفافها فيها رغبة. فقالت له بلغة عربية فصيحة: لو برزت في زيّ سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك.
قال النخّاس (منزعجاً): وما الحيلة ولا بدَّ من بيعك؟ قالت الجارية: وما العجلة ولا بدَّ من مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته. عندئذٍ تقدَّم بشر بن سليمان إلى عمر بن يزيد وقال له: إنَّ معي كتاباً مختوماً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وبخطّ رومي إلى هذه الجارية، ثمّ سكت قليلاً وقال: لعلَّ الله يجعلها من نصيبنا. أثار هذا الكلام اهتمام الجارية، وأخذت تصغي إلى حديث بشر بكلّ مجامعها، وقد أثار اهتمامها إطناب بشر في التحدّث عن مرسله، وعن أخلاقه وكرمه ونبله وسخائه. لم يجد عمر بن يزيد بدَّاً من الاستماع إليه الذي بادره بالقول: اعط هذا الكتاب لهذه الجارية فإن رضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك. أخذ عمر بن يزيد الكتاب بشيء من التردّد ثمّ حزم أمره وسلَّمه لتلك الجارية.. أخذت الجارية كتاب الإمام وفتحته وقرأته، وإذا بالدموع تتساقط كالمطر من عينيها، وأخذ صوتها يعلو بالبكاء الشديد، (إنَّه هو هو)، قالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب.
ثمّ حلفت وأقسمت قسماً قاطعاً أنَّه إن لم يبعها فإنَّها تقتل نفسها ويقع دمها في رقبته وتذهب أمواله هباءً.
انصاع عمر النخّاس لإلحاحها، وبدأ يماكس بشراً في ثمنها حتَّى استقرَّ أخيراً على مقدار ما موجود في الصرَّة الصفراء _ أي المئتين والعشرين ديناراً _. استوفى عمر بن يزيد النخّاس ثمنها وسلَّمها لبشر.. انصرف بشر وبصحبته الجارية التي تكاد تطير من الفرح، إلى حجرة له في بغداد، وبعدما استقرَّ أخرجت الجارية كتاب الإمام من جيبها وأخذت تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، وهي فرحة أشدّ الفرح، والدموع تتساقط من عينيها كاللؤلؤ. قال لها بشر متعجّباً: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، اعلم أنّي مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، واُمّي من ولد الحواريين تنتسب إلى وصي المسيح شمعون{1}.





{1}شاهد العصور، جابر الناصری، ص124
أميرة في سوق النخّاسين


العضوية للحصول علی البرید الالکتروني
الاسم:
البرید الالکتروني:
montazar.net

التصویت
ما ترید أن یتم البحث عنه أکثر فی الموقع؟
معارف المهدويةالغرب و المهدوية
وظیفتنا فی عصر الغیبۀالفن و الثقافۀ المهدوية
montazar.net

المواقع التابعة