الخضر عليه السلام
قال أبو حاتم سهل بن محمّد بن عثمان السجستاني في كتاب المعمرين، ذكر أبو عبيدة وأبو اليقظان ومحمّد بن سلام الجمحي وغيرهم أن أطول بني آدم عمرا الخضر عليه السلام واسمه خضرون بن قابيل بن آدم عليه السلام انتهى.
وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: أن جماعة طالت أعمارهم كالخضر وإلياس، فإنه لا يدري كم لهما من السنين، وأنهما يجتمعان في كل سنة فيأخذ هذا من شعر هذا وهذا من شعر هذا، انتهى. وفي حاشية قرأ خليل على حاشية الخيالي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية: قد ذهب العظماء من العلماء إلى أن أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء: الخضر والياس في الأرض، وعيسى وإدريس في السماء، انتهى. وفي المبحث الخامس والأربعين من كتاب اليواقيت والجواهر للشعراني حكاية عن الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية للشيخ محي الدين ابن العربي: أن العالم لا يخلو زماناً واحداً من قطب يكون فيه كما في الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك أبقى الله تعالى من الرسل الأحياء بأجسادهم في الدنيا أربعة: ثلاثة مشرعون، وهم: إدريس وإلياس وعيسى، وواحد حامل العلم اللدني وهو الخضر عليه السلام، إلى أن قال: فإدريس في السماء الرابعة، وعيسى في السماء الثانية، وإلياس والخضر في الأرض انتهى.
وفي الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني: لم أر من ذكره _ أي الخضر _ في الصحابة من القدماء، مع ذهاب الأكثر إلى الأخذ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه وفيه أيضاً عن الثعلبي أنه قال: هو نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار وفيه عنه أيضاً أنه قال: يقال أن الخضر لا يموت إلا في آخر الزمان عند رفع القرآن وفيه أيضاً عن وهب بن منبه: أن الخضر ساح في الأرض مع الوحش، وأخر الله عمره إلى ما شاء، فهو الذي يراه الناس وفيه عن الدار قطني بسنده عن ابن عباس قال: نسئ للخضر في أجله حتّى يكذب الدجال وفيه عن تاريخ ابن عساكر بسنده عن أبي جعفر عن أبيه وذكر خبر ذي القرنين وطلبه لعين الحياة التي من شرب منها لم يمت أبداً وظفر الخضر بها وشربه منها وفيه وفي كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني عن ابن إسحاق عن أصحابه وذكر خبر وفاة آدم عليه السلام، وقوله لبنيه أن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا، وإيصائه لهم أن يكون جسده معهم في المغارة حتّى يدفنوه بأرض الشام، وأن نوحا عليه السلام قال لبنيه لما جاء الطوفان: إن آدم دعا لمن يتولى دفنه بطول العمر إلى يوم القيامة، فتولى دفنه الخضر وأنجز الله له ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله أن يحيى. أقول: ولا منافاة بين هذا وبين ما جاء أن سبب بقائه شربه من عين الحياة لجواز أن يكون الله تعالى وفقه للشرب من عين الحياة إجابة لدعوة آدم عليه السلام.
وفيه عن أبي مخنف لوط بن يحيى في أوّل كتاب المعمرين له: أنه أجمع أهل العلم بالأحاديث والجمع لها أنّ الخضر أطول آدمي عمراً وأنه خضرون بن قابيل بن آدم عليه السلام وفيه عن الحسن البصري: وكّل إلياس بالفيافي، ووكل الخضر بالبحور، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى، ويجتمعان في موسم كل عام وفيه بسنده عن الحسن البصري، وذكر أنه تخاصم رجلان وتراضيا بحكم أوّل من يطلع عليهما فطلع أعرابي وحكم بينهما، قال الحسن: ذلك الخضر وفيه عن الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسنده عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين، ويحجان ويعتمران كل عام، ويشربان من زمزمكم شربة تكفيهما إلى قابل. وأورد فيه أيضاً عدة روايات في أن الخضر وإلياس يجتمعان في بيت المقدس في شهر رمضان ويحجان في كل سنة يطول الكلام بنقلها. وفي تاريخ الطبري بسنده عن عبد الله بن شوذب قال: الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان في كل عام بالموسم. وفي الإصابة بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويفترقان... الحديث. وبطريق آخر: يجتمع البري والبحري إلياس والخضر كل عام بمكة، قال ابن عباس: بلغنا أنه يحلق أحدهما رأس صاحبه الحديث.
وفيه بسنده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده عن عليّ عليه السلام قال: يجتمع في كل يوم عرفة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والخضر الحديث.
وفيه مسنداً عن كعب قال: الخضر على منبر من نور بين البحر الأعلى والبحر الأسفل، وقد اُمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع، وتُعرض عليه الأرواح غدوة وعشية. وفيه روى ابن شاهين بسند ضعيف إلى خصيف قال: أربعة من الأنبياء أحياء: إثنان في السماء عيسى وإدريس، وإثنان في الأرض الخضر وإلياس، فأما الخضر فإنه في البحر، وأما صاحبه فإنه في البر. وفيه عن النووي في تهذيبه: قال الأكثرون من العلماء هو (أي الخضر) حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر، وقال أبو عمر بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة منهم، قال: وإنما شذّ بإنكاره بعض المحدثين، انتهت الإصابة عن النووي. وفيه عن السهيلي في كتاب التعريف والإعلام: أن الخضر وجد عين الحياة وشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال فإنه الرجل الذي يقتله الدجال، ثمّ يحييه، وقيل أنه لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا لا يصح، وأما اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله فروي من طرق صحاح، منها ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد وكان إمام أهل الحديث في وقته، فذكر الحديث في تعزيتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمعون القول ولا يرون القائل، فقال لهم عليّ: هو الخضر. وذكر ابن أبي الدنيا من طريق مكحول عن أنس اجتماع إلياس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا جاز بقاء إلياس إلى العهد النبوي جاز بقاء الخضر، انتهت الإصابة عن السهيلي.
وأورد في الإصابة أيضاً أحاديث كثيرة دالة على وجود الخضر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعده إلى الآن. وذكر روايات كثيرة جدا فيمن رآه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلّمه، وذكر حديث تعزيته لأهل البيت عليهم السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة طرق غير ما تقدم. واستنبط من بعضها أنهم كانوا جازمين بوجود الخضر في ذلك الوقت. ثم نقل عن أبي حيان أنه قال: كان بعض شيوخنا في الحديث وهو عبد الواحد العباسي الحنبلي يعتقد أصحابه فيه أنه يجتمع بالخضر. ثم قال في الإصابة: وذكر لي الحافظ أبو الفضل العراقي شيخنا أن الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي كان يعتقد أن الخضر حي، قال: فذكرت له ما نقل عن البخاري والحربي وغيرهما من إنكار ذلك فغضب، إلخ.
ثم قال في الإصابة: وأدركنا بعض من كان يدعي أنه يجتمع بالخضر، منهم القاضي علم الدين البساطي الذي ولي قضاء المالكية في زمن الظاهر برقوق انتهى. أقول: فلو ادعى مدع بعد هذا كله أن بقاء الخضر متواتر لم يبعد من الصواب. وتضعيف ابن حجر وغيره لسند بعض ما ورد فيه إن تم لا يضر، لأنه يشترط في التواتر الوثاقة، وقول بعض الصوفية أن لكل زمان خضراً لا يلتفت إليه لمخالفته للروايات وأكثر الحكايات الدالة على بقاء الخضر هو صاحب موسى عليه السلام. وأنكر بعضهم بقاء الخضر وادعى أنه مات، وقال بعض أهل العصر في حاشية كتاب المعمرين للسجستاني ما حاصله: أن عامة متأخري المتصوفة قالوا بحياة الخضر، ويذكرون عن اجتماعهم به حكايات أمالوا بها قلوب العامة إليهم، حتّى لا ترى مدينة من مدن الإسلام إلا وفيها مسجد منسوب إليه وينذرون له النذور ويتبركون به، ووافقهم بعض ضعفاء العلم استنادا إلى أحاديث لا تبلغ مع اختلاف طرقها إلى درجة الضعيف، وقال ابن الجوزي والمجد الشيرازي في آخر سفر السعادة أنها موضوعة، وقال السيوطي في كراسة له أورد فيها الأبواب التي عامة ما فيها موضوع باب في تعمير الخضر وإلياس: سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر؟ فقال: من أجاب على غائب لا ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان. وسئل البخاري عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد، قال ابن الجوزي وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، انتهى كلام المعاصر.
ونقل بعضهم عن الحسن البصري أنه مات، واستدل بعضهم بأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان به وإتباعه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي)، وعن ابن الجوزي أنه احتج لموته بقوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) فلو كان الخضر موجودا لورد على هذا العموم، وعن غيره الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نبي بعدي).
أقول: أما دعوى أن القائلين بحياة الخضر هم المتأخرون من الصوفية فينافيها ما مرّ من نسبة قرأ خليل له إلى العظماء من العلماء، ونسبة الحافظ ابن حجر له إلى أكثر العلماء والقدماء، ونسبة النووي له إلى الأكثرين من العلماء، وقوله هو الصحيح كما يأتي في أخبار الدجال، ونسبة أبي مخنف له إلى إجماع أهل العلم بالأحاديث، ونسبة ابن الصلاح له إلى جماهير العلماء، وقول مثل أبي عبيدة وأبي اليقظان والجمحي وسبط ابن الجوزي والثعلبي والسهيلي والحسن البصري وغيرهم، ونسبة بعضهم القول بموته إلى الحسن تنافيها نسبة غير واحد إليه القول بالبقاء. وأما دعوى الوضع أو الأضعف في تلك الأحاديث فيعارضها قول السهيلي عن جملة منها: أنها رويت من طرق صحاح، مع أنك عرفت أن كثرتها يمكن معها دعوى التواتر، وذلك يغني عن تصحيح سندها. وكلام الحربي معارض بكلام غيره ممن عرفت مما هو أقوى منه، مع أنه مجرد دعوى لم تستند إلى برهان.
وأما الحديث الذي أشار إليه البخاري فمع معارضته بهذه الأحاديث يمكن قريباً أن يكون إشارة إلى الظاهر المعروف من الناس، أو يكون عاما مخصصا بمثل الخضر وغيره. قال النووي في شرح صحيح مسلم: الجمهور على حياته، ويتأولون هذه الأحاديث على أنه كان على البحر لا على الأرض، أو أنها عام مخصوص اهـ. أيده أن البخاري نفسه ذكر عين الحياة في صحيحه، وذكرها الترمذي في جامعه، كما حكاه عنهما ابن حجر في الإصابة في أخبار الخضر. وأما الاستدلال بالآية الشريفة ففيه أنها قابلة للتخصيص كما خصصت بعيسى اتفاقاً، وقابلة لإرادة عدم الموت أصلاً من الخلد، وأما أنه لو كان حيا لجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به فمع تسليمه من أين لنا أن نعلم أنه لم يجيء إليه ولم يؤمن به صلى الله عليه وآله وسلم؟ وأما الإحتجاج بحديث بدر ففيه أنه جار على الظاهر، أي لا تعبد من هذه الخلائق المعروفة، أو على عدم الاعتداد بالنادر. وأما الاستدلال بلا نبي بعدي ففيه أن المراد نفي حدوث النبوة لا دوامها وإلا لانتقض بعيسى، قال ابن حجر في الإصابة: وهو معترض بعيسى، فإنه نبي قطعاً، وثبت أنه ينزل إلى الأرض في آخر الزمان ويحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم{1}.
{1}البرهان على وجود صاحب الزمان،محسن الأمين الحسيني العاملي،ص109